مفهوم التراث في النقد العربي الحديث pdf

يتناول ھذا الكتاب بالدراسة مفھوم التراث ضمن النقد الأدبي العربي الحديث في الحیز الزمني الممتد من فجر النھضة حتى الحرب العالمیة الثانیة. ويرجع حصر الموضوع بین الحدثین المذكورين إلى عناية المؤرخین العرب المعاصرين بحملة نابلیون على مصر، وعناية مؤرخي الأدب بالحرب العالمیة الثانیة باعتبارھا نقطة تحول في تاريخ الغرب والعالم، فأغلب ھؤلاء يعدون الحملة الفرنسیة نقطة بدء تواصل الأدب العربي الحديث مع أدب الغرب وثقافته، وانفعاله بھما.

ذلك أن الحرب الكبرى مثلت الصدمة التي ھزت ضمیر الإنسان المعاصر، ودفعت بحركة الشعر نحو استبطان عمیق للذات استھدف الرقي بالنزعة الإنسانیة وكبح المادية المفرطة، فاتحا بذلك الباب لتنظیر أدبي جديد.

من باب التدقیق يجدر التنويه أن ” مفھوم التراث ” ھو موضوع معالجة معرفیة إجرائیة، بسبب صلته بنظرية النقد من جھة، وبنظرية المعرفة المعاصرة التي لا تعلن دائما عن ھويتھا الغربیة بصورة صريحة، ففي الغالب يكتفي الفكر المعاصر بأن يشیر إلى الموضوع بعبارة عامة ھي “الحداثة”؛ وربما كانت ھذه الطبیعة الإجرائیة وراء تصور المفھوم باعتباره كیانا مجردا يتطلب اقتراح تأسیس إبستیمولوجیا خاصة موضوعھا النقد الأدبي، تعتني بدراسة مبادئ النقد الأدبي، ومناھجه، ونتائجه، انطلاقا من فرضیة تقول إن النقد الأدبي ھو “عملیة معرفة مستقلة لھا سیرورتھا الخاصة”.

على ضوء ھذا التحديد ندرس مفھوم التراث باعتباره أداة معرفة، اصطنعھا العقل العربي الحديث. ونتوخى لھذا الغرض الوقوف على تكوين ھذا المفھوم المفتاح، ووصف بنیته منظورا إلیھا من زاوية شروطه الخاصة، وطبیعته كأداة من أدوات تفكیر الناقد الأدبي، فضلا عن سیاقه العام، سیاق الحیاة الاجتماعیة، وما ينجر عن النقص في الدراسات الأكاديمیة الرامیة إلى تأصیل النظرية النقدية، مع مراعاة ما يتطلبه تأسیس إبستیمولوجیا خاصة بالنقد الأدبي من اھتمام باستقلال المعرفة النقدية النسبي وتأكید تصنیفھا ضمن المعرفة الموضوعیة (العلمیة( التي يمكن مراجعة أخطائھا، وتنظیم سیرورة ھذا التصحیح.

ومن جانب آخر نذكر أن ھذا الاختیار له طابع التجربة الذاتیة من خلال اقتراح أساس نظري ما، وبناء جھاز من المفاھیم ضمن مشروع شخصي يتخذ من النقد التطبیقي حقلا لتأسیس نوع من الدراسة للنصوص في الأدب وغیره، انطلاقا مما سماه ألتوسیر “الوحدة المشكلة للنص” أو ما يمكن القول إنه “الوحدة المشكلة للأدب” بمعناه عند العرب القدامى.

ومن الطبیعي أن تتوسل الدراسة بمنھج قراءة شكلي مستنبط من طبیعة الموضوع حیث تتم المزاوجة بین النظري والمجرد وبین الواقعي والتجريبي من أجل وصف بنیة المفھوم، والتعرف على سیرورة تكوينه، والكشف عن الجدل الكامن بین شروط المفھوم الخاصة، وشروط النھضة السیاقیة، ھذا التركیب النظري يجمع بین البنیة والتكوين من جھة، ووظیفتھما من جھة ثانیة، تمھیدا لجمع مادة الوعي الجمالي النھضوي العربي الحديث، وسعیا لكتابة تاريخه.

[…] ويجدر التنويه بأن مفھوم التراث لم يغب غیابا تاما عن خطاب القدماء بل اقترن بمصطلحات وألفاظ مختلفة، دل علیه بعضھا كلفظ الرواية ولفظتي الإحداث والتولید، والقديم والمحدث، وكلھا من لفظ القدماء واصطلاحھم، لكن لفظ التراث حمل منذ بداية النھضة دلالة مھمة عن وصول ظاھرة التوارث إلى مفترق حاسم بین أن نرث عن أسلافنا أو أن نرث عن أسلاف العالم الجدد، وأن ھذا التردد صرفنا لفترة عن الانتساب إلى سلك مكتسبي الخبرة بجھدھم الخاص، الذين نخلع علیھم صفة المبدعین المبتكرين، أو الخالقین، والمكتشفین.

كتاب مفهوم التراث في النقد العربي الحديث من تأليف محمد الطيب قويدري والحقوق الفكرية والأدبية للكتاب محفوظة للمؤلف