الشرق الفنان pdf

الثقافةُ الشرقيةُ بشتَّى نَواحِيها مِن دِينٍ وفنٍّ وفلسفةٍ تعبيراتٌ تُخرِجُ ما تَضطرِبُ به النَّفسُ مِن وِجْدان، على حينِ أنَّ الثقافةَ الغربيةَ بجميعِ ألوانِها مِن عِلمٍ وفلسفةٍ وفنٍّ لا تخلو أبدًا مِنَ الرمزِ إلى ما هو كائنٌ خارجَ النَّفسِ الإنسانيةِ بكلِّ ما فيها من جَيَشان.

للإنسانِ نظرتانِ للكَون؛ نظرةٌ مباشِرةٌ حِسيَّةٌ أطلَقَ عليها المؤلِّفُ «نظرة الفنان الخالص»، وهي النظرةُ المُسيطِرةُ على الشرقِ الأقصى المتمثِّلِ في الهندِ والصينِ وما جاوَرَهما؛ والنظرةُ الأخرى «نظرة العِلم الخالص» ذاتُ العقليةِ التحليليةِ المسيطِرةِ على الغَرب.

وخلالَ العُصورِ السابقة، استطاعَ الشرقُ الأوسطُ أنْ يَدمُجَ هاتَينِ النظرتَينِ ليُوحِّدَ بينَ قلبِ الفنَّانِ وعقلِ العالِم. 
وفي هذا الكتابِ يَعقِدُ المؤلِّفُ مُقارَناتٍ سريعةً بينَ فلسفاتِ الشرقِ وفلسفاتِ الغرب، ويُقارِنُ أيضًا بينَ الفلسفةِ الإسلاميةِ القائمةِ على العقل، كالتي عند المُعتزلةِ والكِنْدي والفارابي، وبينَ التصوُّفِ الفلسفيِّ القائمِ على الحَدْسِ المباشِر، كالذي عندَ ذي النُّونِ وابنِ الفارض.

يرى الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه الشرق الفنان أن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود، طرف منهما يتمثل في الشرق الأقصى، الهند والصين وما جاورهما، ويتمثل الآخر في الغرب ،أوربا وأمريكا، وبين الطرفين وسط يجمع بين طابعيهما، هو الشرق الأوسط .

فأما الشرق الأقصى فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر يمزج ذاته في ذاته مزجا تفنى معه فردية الفرد لتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم، وهي نظرة معتمدة على اللمسة الذاتية المباشرة لا تحتاج إلى تعليل وتحليل ومقدمات ونتائج، فإدراك حقيقة الوجود بما يشبه التذوق، وهو ما يميز الفنان في نظره إلى الأشياء.

ويقصد الدكتور زكي نجيب محمود الفن بأوسع معانيه، وهو أن ينظر الإنسان إلي الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما ذلك الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الصوفي ونظرة الشاعر ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم علي خطوة واحدة، بخلاف العالم التجريبي الذي تتم نظرته إلي العالم علي خطوتين، في الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجري الظواهر والأحداث.

لم يفترض الدكتور زكي نجيب محمود تقسيمه الثنائي بناء علي منهج التفكير الجدلي عند الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831)، ولم يكن تصوره للأمر ذهنيا نظريا يقيم الدعوي ثم يخرج منها نقيضها، ثم يجمع الطرفين في تأليف جديد، وإنما قام باستقراء معالم التراث الإنساني كما شهدته عصور التاريخ بالفعل. 

كتاب الشرق الفنان من تأليف زكي نجيب محمود والحقوق الفكرية والأدبية للكتاب محفوظة للمؤلف